- ندوات تلفزيونية
- /
- ٠09برنامج موسوعة الأخلاق الإسلامية - قناة إقرأ
مقدمة :
أعزائي المشاهدين يسرنا أن نلتقي بكم في حلقة جديدة من حلقات :"موسوعة الأخلاق الإسلامية" ، في ضيافة أستاذنا الدكتور محمد راتب النابلسي ، أستاذ الإعجاز العلمي في القرآن والسنة في كليات الشريعة وأصول الدين ، فأهلاً وسهلاً دكتور.
الدكتور راتب :
بكم أستاذ أحمد جزاكم الله خيراً .
الأستاذ أحمد :
أستاذ الكريم في حلقات سابقة كنا قد تحدثنا عن علاقة الأخلاق بالتكليف ، وأن من مقومات التكليف أموراً عدة ، وذكرنا منها مقوم الكون ، ومقوم العقل ، ووعدتمونا أن نتحدث في هذه الحلقة عن مقوم آخر جديد ألا وهو مقوم الفطرة ، والفطرة قال الله عز وجل عنها في محكم تنزيله :
﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾
انطلاقاً من هذه الآية ، وانطلاقاً من موضوع حلقتنا اليوم ، حبذا أن نسمع منكم تفسيراً لحقيقة الفطرة ومعناها .
الإنسان بالعقل يتعرف إلى الله و بالفطرة يعرف أخطاءه :
الدكتور راتب :
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
الحقيقة أن الله سبحانه وتعالى حينما رفع السماوات وضع الموازين ، قال تعالى :
﴿ وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ﴾
فكما أن العقل ميزان ، الفطرة ميزان آخر ، نحن بالعقل نتعرف إلى الله ، بينما بالفطرة نعرف أخطاءنا ، الفطرة مقياس نفسي ، جبلة ، هذه الجبلة تكشف لك الخطأ ذاتياً من دون أن تتلقى توجيهاً آخر ، يعرف الإنسان من ذاته ما إذا كان قد أخطأ أو أصاب .
كما تفضلت قبل قليل في قوله تعالى :
﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ﴾
الحقيقة أن الحق دائرة تتقاطع فيها أربعة خطوط ، خط النقل الصحيح وسوف أركز على صفة لكل كلمة ، خط النقل الصحيح ، وخط العقل الصريح ، وخط الفطرة السليمة ، وخط الواقع الموضوعي .
الفطرة من أدق وسائل كشف الخطأ والتصحيح :
الحق دائرة تتقاطع فيها أربعة خطوط ، الفطرة السليمة ؛ أي أن جبلة الإنسان كما خلقه الله متوافقة من منهج الله ، فالإنسان يكتشف أنه قد أخطأ ، أو أنه أخذ ما لا ينبغي ، أو أنه أساء إلى إنسان آخر ، كل أخطاء الإنسان تكشف ذاتياً من خلال فطرته ، ففطرته مشعر ذاتي ، ميزان نفسي ، جبلة خصصها الله لكشف الخطأ الذاتي ، هناك آلات كثيرة حديثة تكشف لك الخطأ ذاتياً ، إن كان هناك خطأ يظهر على الشاشة ، هناك آلات قديمة تكشف أنت الخطأ .
فالإنسان كصنعة متقنة من صنع الله عز وجل ، فخصص الله الإنسان بآلية بالغة التعقيد بحيث أنه إذا أخطأ يعرف أنه أخطأ ، معرفة ذاتية فطرية من دون توجيه آخر .
إذاً خط العقل الصريح ، مع خط الفطرة السليمة ، مع خط الواقع الموضوعي ، مع خط النقل الصحيح ، قلت : النقل الصحيح لأن هناك نقلاً غير صحيح ، هناك نقل ضعيف الإسناد ، موضوع ، وقلت : العقل الصريح لأن هناك عقلاً تبريرياً ساقطاً في ميزان المعرفة، وقلت : الواقع الموضوعي لأن هناك واقعاً مزوراً ، وقلت : الفطرة السليمة لأن الإنسان إذا مارس الخطأ ، وبالغ به تنطمس فطرته .
﴿ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾
إذاً الفطرة قياس ، الله عز وجل رحمة بنا زودنا بمقياس ، بمعنى أن الإنسان إذا عاش بالغابة ، ولم يتلقَ أي توجيه ، ولا رسالة ، ولا علم ، لو أنه يعيش مع أمه ، وكانا جائعين فأكل وحده ، ولم يطعم أمه يشعر أنه أخطأ بدافع من فطرته ، فهذه الفطرة من أدق وسائل كشف الخطأ والتصحيح .
الأستاذ أحمد :
دكتور عفواً ، لو أن هذا الإنسان يعيش في الغابة ، قلنا له يجب عليك أن تعرف أن لهذا الكون إلهاً وخالقاً ، فهل قولنا هذا صحيح ؟
من لم تصله رسالات الأنبياء يحاسب على عقله و فطرته :
الدكتور راتب :
العقل الذي أودعه الله فيه كافٍ لمعرفة ربه ، والفطرة التي جبل عليها كافية لمعرفة خطئه ، لذلك الإنسان يحاسب يوم القيامة إذا لم تصله رسالات الأنبياء ، لا يحاسب على تفاصيل الشريعة بل يحاسب على عقل كان كافياً لمعرفة ربه ، وعلى فطرة كانت كافية لمعرفة خطئه .
الأستاذ أحمد :
ماذا نقول عن قوله تعالى :
﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ﴾
الدكتور راتب :
بعض العلماء قالوا : الرسول هو العقل .
الأستاذ أحمد :
دكتور نعود إلى الآية الكريمة التي قال الله عز وجل فيها :
﴿ فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ﴾
هذا المقطع من الآية يستدعينا لسؤال ؛ هل هناك علاقة ما بين الفطرة وما بين المنهج الإلهي بما أنه قال
﴿ فِطْرَةَ اللَّهِ ﴾
الفطرة لا تعني الكمال ولكنها تعني حبّ الكمال :
الدكتور راتب :
قبل أن أجيب عن هذا السؤال ، لا بدّ من التنويه أن الفطرة لا تعني الكمال ، فلان يحب الرحمة ، لا تعني أنه رحيم ، فلان يحب العدل ، لا تعني أنه عادل ، فلان يحب اللطف ، لا تعني أنه لطيف ، فرق كبير بين أن تحب الكمال ، وبين أن تكون كاملاً ، ففطرة الله أن كل مخلوق خلقه الله عز وجل تطوق نفسه إلى الكمال ، فإما أن يكون كاملاً فيصطلح مع نفسه ، أو ألا يكون كذلك فهو في حرب مع نفسه ، فالفطرة لا تعني الكمال ، ولكن تعني حبّ الكمال .
لذلك الأناس المنحرفون لو أخذوا ما ليس لهم ، يقتسمون هذا المال الحرام وفق فطرهم بالعدل ، فالفطرة لا تعني أن الإنسان كامل لكن تعني أنه يحب الكمال ، ولأنه يحب الكمال يكشف خطأه ، فكشف الخطأ خطوة لا بدّ منها لإصلاحه ، فكأن الله سبحانه وتعالى زودنا بطريقة رائعة ذاتية تكشف لنا أخطاءنا .
لذلك الألم الذي يعتور الإنسان بعد كشف خطئه لعله يحثه على ملازمة الصواب.
الأستاذ أحمد :
هل هذا ما يمكن أن نطلق عليه النفس اللوامة ؟
الدكتور راتب :
والله يمكن أن نسميه النفس اللوامة ، أو أن نسميه الشعور بالذنب ، أو أن نسميه الإحساس بالكآبة ، هي كلها أسماء لمسمى واحد ، الإنسان إذا خالف فطرته يشعر أنه أخطأ .
الأستاذ أحمد :
دكتور ، مسألة أن الشعور بالذنب ، أو النفس اللوامة ، أو الشعور بالكآبة ، يستدعينا لسؤال جديد ، ألا وهو أن كثيراً من الناس يهيمون على وجوههم في المعاصي حتى نرى أن البصيرة عندهم قد انطمست والعياذ بالله ، ثم بعد ذلك إنهم يعانون من كآبة داخلية فهل الكآبة اليوم باتت مرضاً في هذا العصر نتيجة البعد عن فطرة الله عز وجل التي فطر الناس عليها ؟
الإنسان حينما يخطئ يعلم أنه أخطأ بدافع من فطرته :
الدكتور راتب :
لكنك سألتني سؤالاً قبل قليل عن علاقة الفطرة بالمنهج الإلهي ، لا بد من أن أجيب عن هذا أولاً ، ذلك أن الله سبحانه وتعالى أعطى الإنسان منهجاً ، أي أعطاه منهجاً لحركته ، افعل ولا تفعل ، فهذا النظام بحركته يتوافق توافقاً تاماً مع فطرته ، بمعنى أنه لأن الله أمره أن يكون منصفاً فطرته برمجت ، وولفت ، وجبلت على حبّ الإنسان ، فمعك أمر أن تكون منصفاً ، ومعك جبلة تدعوك إلى الإنصاف ، فهذا التوافق العجيب توافق تام .
أحياناً نأتي بخارطة نافرة ، أي مجسمة ، نضع لها إطاراً ، ونصب فوقها الجبصين السائل ، بعد أن يجف الجبصين يكون معنا قالب مطابق تماماً على مستوى أعشار الميلي للخريطة ، أنا أرى أن المجسم هو الشرع والمنهج الإلهي ، وأن القالب هو الفطرة أي أن أي أمر إلهي نفسك تواقة إليه ، وأي نهي إلهي نفسك تبتعد عنه ، وهذا معنى قوله تعالى :
﴿ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ﴾
هذه قضايا دقيقة جداً ، أنا كنت أطمح أن يكون هناك ما يسمى بعلم النفس الإسلامي ، الإنسان حينما يخطئ يعلم أنه أخطأ بدافع من فطرته .
العلاقة بين الفطرة وبين المنهج الإلهي علاقة تامة :
إذاً العلاقة بين الفطرة وبين المنهج الإلهي علاقة تامة جداً ، بمعنى أن كل أمر أمرك الله به أنت فطرت على تطبيق هذا الأمر ، وأي نهي نهاك الله عنه أنت فطرت على اجتناب هذا النهي ، والآية كما قلت قبل قليل :
﴿ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ﴾
إذاً توافق الفطرة مع المنهج توافق تام ، لهذا قال : الإسلام دين الفطرة .
الإنسان إما أن يرجع إلى النصوص ليرى ما إذا كان على صواب ، أو على خطأ، أو أن يكون صافياً يرجع إلى فطرته ، وهذا من توجيهات النبي :
(( استفتِ قلبك وإن أفتاك المفتون وأفتوك ))
بمعنى : لو أن إنساناً في جيبه الأيمن جهاز الكتروني لكشف العملة المزورة ، وفي جيبه اليسرى نشرة بأرقام الورقة النقدية المزورة ، نتائج الجهاز ، وكشوفات الأوراق متشابهة تماماً ، أنا حينما أتسلم عملة أجنبية ، إما أن أستخدم الجهاز فأضع العملة عليه ، هناك لون معين يكشف لي ما إذا كان مزوراً ، وإما أن أرى الورقة هل هذا الرقم مزور ؟ فأنا معي نشرة هي المنهج ، ومعي جهاز هو الفطرة ، فلو استخدمت أحد الطريقتين فالنتيجة واحدة ، فإما أن أسأل الشرع ما حكم هذا العمل ؟ يقال : حرام ، وإما أن أكون صافياً ولم تنطمس فطرتي بعد فأصغي إلى نداء قلبي ، فأشعر أنني سأخطئ ، لذلك :
(( استفتِ قلبك وإن أفتاك المفتون وأفتوك ))
الأستاذ أحمد :
هذا يذكرنا بقول الله عز وجل :
﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴾
والسؤال هنا فضيلة أستاذنا ، الله عز وجل حينما استعمل قوله تعالى :
﴿ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴾
كيف يلهم الله عز وجل النفس الفجور والتقوى وهما ضدان متناقضان والأصل أننا نعرف أن الله عز وجل لا يأتي منه إلا الخير ؟
الإنسان مخير فإذا فجر يكشف ذاتياً من دون توجيه خارجي أنه فجر :
الدكتور راتب :
بارك الله بك على هذا السؤال ! سؤال دقيق وخطير ، أنا أتمنى من كل أعماقي ألا نفهم الآية على ما قد تُفهم عليه من قبل ضعيفي الفهم ، أي لا يمكن ، ومستحيل وألف ألف ألف مستحيل أن يدفع الله جلّ جلاله عبده إلى الفجور ، هنا
﴿ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا ﴾
أي أنه ألهمها إذا فجرت أنها فجرت ، أي هي تكشف فجورها ذاتياً ، ليس معنى هذه الآية أنه خلق فيها الفجور ، معاذ الله ! .
﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾
الإنسان مخير ، ولأنه مخير كل شيء حيادي ، فإذا فجر يكشف ذاتياً من دون توجيه خارجي أنه فجر ، إذا فجر يشعر بالضيق ، بالكآبة ، تعذبه نفسه ، يشعر بالذنب ، هذا كله بسبب أن فطرة الإنسان متوافقة توافقاً تاماً مع منهج الرحمن .
الأستاذ أحمد :
هذه دكتور ، الفطرة التي تحدثتم عنها ، هل هناك من علاقة بين الفطرة وبين الصبغة التي استعمل الله عز وجل لفظة :
﴿ صِبْغَةَ اللَّهِ ﴾
الفطرة و الصِبغة :
الدكتور راتب :
أستاذ أحمد ، الإنسان قبل أن يتصل بالله مزود بفطرة تكشف له الخطأ ، لكن لو أنه تعرف إلى الله ، وأقبل عليه ، وأطاعه ، واصطلح معه ، واتصلت نفسه بالله ، تأتي الصبغة أي أنت حينما تتصل بالرحيم تكون رحيماً ، حينما تتصل بالحليم تكون حليماً ، حينما تتصل بالعدل تكون منصفاً ، فكل إنسان أقبل على الله ، واشتق منه الكمال ، نقول عندئذٍ أضاف إلى فطرته الصبغة ، قال تعالى :
﴿ صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً ﴾
الصبغة شيء والفطرة شيء آخر ، الصبغة تعني أنك كامل ، تعني أنك رحيم ، تعني أنك منصف ، تعني أنك وقاف عند الحدود ، أما الفطرة تعني أنك تتبنى .
الأهداف الكبرى تحتاج إلى عمل لأن التمنيات بضائع الحمقى :
لكن بالمناسبة الله عز وجل لا يتعامل أبداً مع التمنيات ، قال تعالى :
﴿ لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ﴾
الأهداف الكبرى تحتاج إلى عمل .
﴿ وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ ﴾
أما التمنيات كما يقال : بضائع الحمقى ، كل إنسان يتمنى ، لذلك أنا أقول : ما أنت فيه صدقك ، وما لست فيه تمنياتك ، الذي وصلت إليه هذا بسبب صدقك في الطلب ، أما الذي لم تصل إليه هو تمنيات لم تبذل من أجلها جهداً ، إن القرار الذي يتخذه الإنسان في شأن مصيره قلّما تنقضه الأيام إذا كان صادراً حقاً عن إرادة وإيمان .
أنا أذكر مرة أن رجلاً من صعيد مصر ، أرسل ابنه إلى الأزهر ، وعاد بشهادة وألقى خطبة في مسجد القرية ، الأب حضر الخطبة وبكى بكاءً شديداً ، فهم الناس بكاءه فرحاً بابنه ، الحقيقة ليست كذلك ، بكى بكاءً شديداً أسفاً على ضياع عمره بالجهل ، هذا الألم الشديد دفعه إلى أن يركب دابته وينطلق إلى القاهرة من صعيد مصر ، بقي أسابيع بل بضع شهور حتى وصل إلى القاهرة سأل عن الأزعر ، أي أزعر هذا ؟! هو يقصد الأزهر ، أوصلوه إليه، وبدأ بتعلم القراءة والكتابة في الخامسة و الخمسين من عمره ، ثم تعلم القرآن ، ثم تابع العلوم، وما مات إلا شيخ الأزهر ، مات في السادسة و التسعين .
بالمناسبة : الإنسان إما أن يكون صادقاً ، وإما أن يكون متمنياً ، الفطرة تقف عند التمني ، أما الصبغة نتيجة الصدق تصدق في طلب الحقيقة ، تصدق في مكارم الأخلاق ، تتصل بالله ، تشتقها من الله عز وجل ، تكون مصطبغاً بالكمال الإلهي ، فالعلاقة بين الفطرة والصبغة علاقة دقيقة ، الفطرة أن تحب الكمال ، لكن الصبغة أن تكون كاملاً ، الفطرة أن تحب الإنصاف ، لكن الصبغة أن تكون منصفاً .
الأستاذ أحمد :
دكتور قول الله عز وجل :
﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا ﴾
وفي آية أخرى يقول المولى جلّ في علاه :
﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا ﴾
الوسع هو الطاقة ، أما ما آتاها فما معناها ؟ .
الوسع الذي وهبه الله للإنسان يقدره الله عز وجل :
الدكتور راتب :
الحقيقة الوهم الكبير أن كل إنسان يتوهم وسعاً له ، هذا الخطأ الكبير الناتج عن أن كل إنسان يخترع وسعاً له ، يقول : هذا فوق طاقتي ، لكن النقطة الدقيقة جداً أن الوسع الذي وهبك الله إياه يقدره الله عز وجل ، أما أن أخترع أنا مقياساً لوسعي فأتجاوز بعض ما ينبغي أن أفعله بدعوى أن هذا فوق طاقتي ، هذا غير صحيح إطلاقاً ، الله عز وجل سمح للمسافر أن يفطر ، سمح للمسافر أن يقصر من الصلاة ، فهذا الوسع بتقدير الله عز وجل لما أتاها في مجال الأعمال الصالحة ، والإنسان أتاه الله طلاقة اللسان ، هذه الطلاقة بمَ وظفها ؟ بإقناع الناس بالحق ، لا إقناعهم بالباطل ، أتاه مالاً ، ماذا فعل بهذا المال ؟ أنفقه في إطعام الجياع والفقراء والمساكين ، وفي حلّ مشكلات الأمة ، أم في متع رخيصة ؟ أعطاه الله جاهاً ، هل استخدم الجاه في إحقاق الحق ، وإبطال الباطل ، أم استخدم الجاه من أجل أن يأخذ ما ليس له ، وأن يذل من حوله ؟
الذي أتاك الله إياه هو امتحانك مع الله ، الإنسان في الدنيا ممتحن ، ممتحن في شيئين ، فيما أعطاه الله ، وفيما زواه عنه ، لذلك من أدق الأدعية :
(( اللهم ما رزقتني مما أحب فاجعله قوة لي فيما تحب ، وما زويت عني ما أحب فاجعله فراغاً لي فيما تحب ))
كل إنسان مبتلى فيما آتاه الله و فيما زوي عنه :
ألم يقل الله عز وجل :
﴿ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ﴾
الإنسان مبتلى فيما أتاه ، مبتلى فيما زوي عنه ، هذا يقودنا إلى أن لكل إنسان فضلاً عن العبادات التي جاءت في ثنيات التشريع ، هناك عبادة خاصة لكل إنسان ، فالقوي عبادته الأولى إحقاق الحق ، والغني عبادته الأولى إنفاق المال ، والعالم عبادته الأول تعليم العلم ، والمرأة عبادتها الأولى رعاية الزوج والأولاد ، فالذي أتاك الله إياه ينبغي أن يكون متميزاً في الإنفاق منه ، ألم يقل الله عز وجل :
﴿ الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾
﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا ﴾
أتاها المال ، لذلك لا يقبل من الغني أن يمضي طوال الليل في الاستغفار ولا يدفع شيئاً ، نقول له : أنت عبادتك الأولى إنفاق المال ، فكل إنسان بحسب هويته مكلف أن ينفق مما آتاه الله ، وكلمة ينفق واسعة جداً ، يمكن أن تنفق من جاهك ، أو من وقتك ، أو من جهدك ، أو من مالك .
العمل الصالح علة وجود الإنسان في الحياة الدنيا بعد الإيمان بالله :
على كلٍّ الحياة علة وجودنا فيها العمل الصالح ، والدليل أن الإنسان حينما يأتيه أجله يقول :
﴿ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً ﴾
بعد الإيمان بالله العمل الصالح .
الأستاذ أحمد :
هذه الآيات استعرضناها التي تتحدث عن الفطرة ، هل هناك من أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تدلنا أيضاً على مفهوم الفطرة ؟ .
أحاديث تدلنا على مفهوم الفطرة :
الدكتور راتب :
(( والإثمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ وَكَرِهتَ أَن يَطَّلِعَ عليه النَّاسُ ))
أي الحق لا يستحى به ، لا تخجل منه ، لا يحتاج إلى أن تضخمه ، لا يحتاج إلى أن تقلل من شأن خصومه ، الحق يعلن على الملأ ، يقال في رابعة النهار ، الحق هو الله عز وجل ، أما الباطل تستحي به ، هل ترى أحداً يغش الحليب بمزجه بالماء أمام الناس ؟ لا يستطيع ، لذلك :
(( البر ما اطمأنت إليه النفس ))
من أحد مقاييس البر :
(( ما اطمأنت إليه النفس ))
(( والإثمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ وَكَرِهتَ أَن يَطَّلِعَ عليه النَّاسُ ))
الأستاذ أحمد :
وهل هذا معنى حديث النبي عليه الصلاة والسلام :
(( ما مِن مولودٍ إلا يُولَدُ على الفِطْرةِ ))
الدكتور راتب :
أي مولود من أي جنس ، في أي مكان ، في أي زمان ، يولد على حبّ الخير هذه الفطرة ، لكن بيئته أحياناً تسوقه إلى هذه الجهة ، أو إلى هذه الجهة ، لكن لو عاد إلى فطرته .
كم إنسان تاب وهو غارق بالمعاصي والآثام ، لماذا تاب ؟ عاد إلى فطرته ، أحياناً الإنسان يكون قوياً ، ولا أحد يعترض عليه ، يعود إلى فطرته فتنهاه فطرته عن أن يتابع عمله السيئ .
فالفطرة مقياس دقيق جداً ، لكن المشكلة أن الفطر أحياناً تنطمس فتتابع الخطأ ، كما لو أن صفحة بيضاء أي أثر يكتب عليها يظهر ، فإذا امتلأت باللون الأسود نقول : انطمست ، فنحن نخشى أن يتابع الإنسان الخطأ إلى أن تنطمس فطرته عندئذٍ لا يعي على خير .
الأستاذ أحمد :
وهل هذا ما حدثتمونا عنه من الكآبة ، مرض الكآبة ؟ .
الكآبة نتيجة تفلت الإنسان من منهج الله عز وجل :
الدكتور راتب :
الحقيقة أن مرض العصر هو الكآبة ، بدليل أن الإنسان تفلت من منهج الله .
أستاذ أحمد ، السيارة لماذا صنعت ؟ من أجل أن تسير ، لماذا وضع فيها مكابح ، المكبح في فلسفته يتناقض مع علة صنع السيارة ، لكنه ضمان لسلامتها ، كذلك الكآبة التي تحصل من انحراف يصيب الإنسان ، هذه الكآبة لعلها ترجعه إلى الصواب .
تصور لو أن الإنسان فطرته ليست وفق منهج الله ، يرتكب كل المعاصي والآثام دون أن يشعر بشيء إطلاقاً ، يرتكب كل المعاصي والآثام ، ويعتدي ، ويأخذ ما ليس له ، ويتفنن في إيذاء الناس ، وينام ناعم البال .
لذلك في بعض الفنادق بألمانيا ، كتب على أسرتها : إن لم تنم فالعلة ليست في فرشنا إنها وثيرة ، ولكن العلة في ذنوبك .
الإنسان إذا أصغى إلى صوت فطرته قد يراجع نفسه ، سيدنا نعيم بن مسعود جاء ليحارب النبي ، هو في الخيمة خاطب نفسه ، هذا يسمى في علم النفس الحوار الذاتي ، قال : يا نعيم ! ما الذي جاء بك إلى هنا ؟ أجئت لتحارب هذا الرجل ؟! ماذا فعل ؟ أسفك دماً ؟ أنهب مالاً ؟ انتهك عرضاً ؟ أين عقلك يا نعيم ؟ ـ هذه الفطرة ـ فقام من توه ، وتوجه إلى معسكر النبي ، ودخل على النبي الكريم ، قال له : نعيم ؟! قال له : نعيم ، قال له : ما الذي جاء بك إلينا ؟ قال : جئت مسلماً .
خاتمة و توديع :
الأستاذ أحمد :
ولا يسعنا في نهاية هذا الحلقة إلا أن نشكر أستاذنا الدكتور محمد راتب النابلسي .
والسلام عليم ورحمة الله تعالى وبركاته